زياد سلامة*
سبع وثمانون عاماً هجرياً مرّت على إلغاء منصب الخلافة الإسلامية، الذي تقرر في العام 1342هـ. فبعد اجتماع عاصف للمجلس الوطني التركي، أعلن مصطفى كمال إلغاء منصب الخلافة الإسلامية، وتم في ذلك اليوم نفي الخليفة عبد المجيد، فأقلته سيارة إلى سويسرا لا يحمل إلا حقيبة فيها بعض الثياب وبضعة جنيهات، ومن الباب الذي خرج منه الخليفة، عادت السيارة محملة بكل الغلو العلماني على يد أتاتورك، الذي سبق أن ألغى السلطنة في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 1922، وأعلن الجمهورية في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 1923.
وبطرد الخليفة، خلا الجو لأتاتورك، فشرع في تنفيذ برنامجه العلماني التغريبي، فصدرت أوامره بإلغاء وظيفة شيخ الإسلام، وإغلاق المدارس الدينية والزوايا الصوفية، وتحويل مسجد أياصوفيا إلى متحف، وصدور قانون علماني، ثم صدرت قوانين تمس الحريات الشخصية نحو: حظر ارتداء الطربوش وإحلال القبعة مكانه، ومنع الخطباء من ارتداء الزي المميز لهم خارج المساجد، ثم قرار إلغاء العمل بالتقويم الهجري وإلغاء اعتماد الحرف العربي في اللغة التركية وإحلال الحرف اللاتيني مكانه، كما أمر أتاتورك أن يكون الآذان بالتركية بدل العربية، وتبنى التقويم الغربي، ثم صادرت الدولة الأوقاف الإسلامية، وتم تبني القانون المدني السويسري ثم تبعه القانون الجزائي الإيطالي، والتجاري الألماني.
لم يكتف أتاتورك بإزالة آخر دول الخلافة الإسلامية، لكنه حارب الدين والتدين من خلال النظام العلماني الذي شرعه في تركيا، رابطاً تقدم البلاد وتطورها بالتخلي عن الهوية الإسلامية تاريخاً وممارسة، ولذلك فالعلمانية الكمالية لم تكتف بفصل الدين عن الدولة، لكنها أيضاً منعت كل مظاهر التدين بإجراءات قانونية تحميها مؤسسات الدولة وأبرزها الجيش.
وبعد وفاته، استمر حزب الشعب الذي أسسه أتاتورك في العام 1923 على خطاه، بل بالغ في دفع البلاد نحو العلمانية، وأدت الصراعات السياسية ووقوف الجيش كقوة منيعة في وجه أي تغيير للأسس العلمانية التي وضعها أتاتورك، إلى محاصرة كل فكر مخالف وقمعه، ولكن تشدد حزب الشعب في فرض القيود العلمانية، ولّد حركة تململ لدى الناس، ما جعلهم ينتخبون عدنان مندريس في العام 1950، الذي منَّى الناس ببعض الحريات الدينية، فأعاد الآذان إلى أصله باللغة العربية، وأدخل الدروس الدينية إلى المدارس العامة، وفتح أول معهد ديني عالٍ إلى جانب مراكز تعليم القرآن الكريم. وقد رفعت هذه الأعمال شعبية مندريس، فأثارت حفيظة بعض الأوساط العلمانية المعادية للإسلام، وحدثت مواجهات في الجامعات وشوارع إسطنبول وأنقرة. كان المتظاهرون يدّعون أن عدنان مندريس يعتزم قلب النظام العلماني وإقامة دولة دينية. وبعد انقلاب عسكري تم إعدام مندريس في العام 1960، وبطبيعة الحال لم تنفع محاولات مندريس التقرب من العلمانيين الأتاتوركيين، مثلاً عندما سن قانون "تعظيم أتاتورك"، الذي وصل إلى حد تقديسه، إذ بقيت النخبة العلمانية والعسكرية تترصد أي بروز إسلامي، فتم حل حزب النظام الوطني الذي أسسه نجم الدين أربكان في العام 1970، بدعوى توجهه الإسلامي ومعارضته النظام العلماني ونيته إقامة دولة دينية. وجرى حل الأحزاب التي شكلها أربكان بعد ذلك، كحزب السلامة، وحزب الرفاه الإسلامي، ثم حزب الفضيلة الذي تمخض عنه حزب العدالة والتنمية وحزب السعادة.
العلمانيون في تركيا تبنوا أكثر أنواع العلمانية تشدداً، فهم يحاربون أي مظهر ديني، وأكبر شاهد على ذلك وقوفهم بقوة أمام السماح للمحجبات بدخول الجامعات. وقد حرّكت الأحزاب العلمانية عشرات الألوف من الناس في مظاهرات ضد حزب الرفاه ووصوله للسلطة، ورغم كل مظاهر التضييق والتغريب فقد ازداد عدد المحجبات والمتدينين، يشهد على ذلك حصول حزب التنمية على الأغلبية البرلمانية لأنه طرح شعارات إسلامية، ووعد بالمزيد من الحرية الدينية، وقد بدأ الكثير من الأتراك بالتخلي عن خط أتاتورك المتشدد، ودليل ذلك تقهقر مكانة حزب الشعب منذ أوائل الخمسينات، ولولا قانون تعظيم أتاتورك الذي سنّه مندريس، لارتخت قبضة العلمانية في تركيا منذ زمن بعيد.
كثير من الدول القائمة في العالم الإسلامي قلدت النموذج الأتاتوركي في فصل الدين عن الدولة وفرض العلمانية بالقوة، لكن معظمها لا تجاهر بعلمانيتها، إلا أن واقعها يقول بفصل الدين عن الدولة، وهذا مؤشر على أن العلمانيين لا يستطيعون تقديم العلمانية سافرة كأتاتورك، وهذا مؤشر على أن العلمانية غير منسجمة في الحقيقة مع المجتمعات الإسلامية، وهذه علامة ضعف واقتراب نهاية.
من علامات قرب نهاية العلمانية أنها في بلادنا تفتقر إلى مثال نموذجي للدولة العلمانية، فكل ما نشاهده هو نماذج تخلط بين الإسلام وغيره، فلا الفصل تام ولا الإسلام هو وحده في الساحة، والنماذج الغربية لا تغري بالتقليد في مجال التطبيق العلماني، فهي نماذج تقصي الآخر الإسلامي، وتقوم على القمع، ونموذج منع الحجاب في فرنسا وغيرها شاهد على ذلك.
العلمانية في عالمنا الإسلامي غير منسجمة مع الإسلام والمسلمين، بسبب رفض الإسلام لفكرة فصله عن الحياة، فالفصل صناعة أوروبية صرفة، ومن الدلائل الأخرى على أن العلمانية آيلة للسقوط، عودة كثير من رموز العلمانيين عن الفكر العلماني، مثل طه حسين وعلي عبد الرازق وخالد محمد خالد ومحمد حسين هيكل وغيرهم.
*كاتب أردني
المصدر: http://www.alghad.jo/?news=358258
منقول للإفادة
مع تحيات مبدع المنتدةى
mxex2008]
hmadaa@live.com _________________
سبع وثمانون عاماً هجرياً مرّت على إلغاء منصب الخلافة الإسلامية، الذي تقرر في العام 1342هـ. فبعد اجتماع عاصف للمجلس الوطني التركي، أعلن مصطفى كمال إلغاء منصب الخلافة الإسلامية، وتم في ذلك اليوم نفي الخليفة عبد المجيد، فأقلته سيارة إلى سويسرا لا يحمل إلا حقيبة فيها بعض الثياب وبضعة جنيهات، ومن الباب الذي خرج منه الخليفة، عادت السيارة محملة بكل الغلو العلماني على يد أتاتورك، الذي سبق أن ألغى السلطنة في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 1922، وأعلن الجمهورية في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 1923.
وبطرد الخليفة، خلا الجو لأتاتورك، فشرع في تنفيذ برنامجه العلماني التغريبي، فصدرت أوامره بإلغاء وظيفة شيخ الإسلام، وإغلاق المدارس الدينية والزوايا الصوفية، وتحويل مسجد أياصوفيا إلى متحف، وصدور قانون علماني، ثم صدرت قوانين تمس الحريات الشخصية نحو: حظر ارتداء الطربوش وإحلال القبعة مكانه، ومنع الخطباء من ارتداء الزي المميز لهم خارج المساجد، ثم قرار إلغاء العمل بالتقويم الهجري وإلغاء اعتماد الحرف العربي في اللغة التركية وإحلال الحرف اللاتيني مكانه، كما أمر أتاتورك أن يكون الآذان بالتركية بدل العربية، وتبنى التقويم الغربي، ثم صادرت الدولة الأوقاف الإسلامية، وتم تبني القانون المدني السويسري ثم تبعه القانون الجزائي الإيطالي، والتجاري الألماني.
لم يكتف أتاتورك بإزالة آخر دول الخلافة الإسلامية، لكنه حارب الدين والتدين من خلال النظام العلماني الذي شرعه في تركيا، رابطاً تقدم البلاد وتطورها بالتخلي عن الهوية الإسلامية تاريخاً وممارسة، ولذلك فالعلمانية الكمالية لم تكتف بفصل الدين عن الدولة، لكنها أيضاً منعت كل مظاهر التدين بإجراءات قانونية تحميها مؤسسات الدولة وأبرزها الجيش.
وبعد وفاته، استمر حزب الشعب الذي أسسه أتاتورك في العام 1923 على خطاه، بل بالغ في دفع البلاد نحو العلمانية، وأدت الصراعات السياسية ووقوف الجيش كقوة منيعة في وجه أي تغيير للأسس العلمانية التي وضعها أتاتورك، إلى محاصرة كل فكر مخالف وقمعه، ولكن تشدد حزب الشعب في فرض القيود العلمانية، ولّد حركة تململ لدى الناس، ما جعلهم ينتخبون عدنان مندريس في العام 1950، الذي منَّى الناس ببعض الحريات الدينية، فأعاد الآذان إلى أصله باللغة العربية، وأدخل الدروس الدينية إلى المدارس العامة، وفتح أول معهد ديني عالٍ إلى جانب مراكز تعليم القرآن الكريم. وقد رفعت هذه الأعمال شعبية مندريس، فأثارت حفيظة بعض الأوساط العلمانية المعادية للإسلام، وحدثت مواجهات في الجامعات وشوارع إسطنبول وأنقرة. كان المتظاهرون يدّعون أن عدنان مندريس يعتزم قلب النظام العلماني وإقامة دولة دينية. وبعد انقلاب عسكري تم إعدام مندريس في العام 1960، وبطبيعة الحال لم تنفع محاولات مندريس التقرب من العلمانيين الأتاتوركيين، مثلاً عندما سن قانون "تعظيم أتاتورك"، الذي وصل إلى حد تقديسه، إذ بقيت النخبة العلمانية والعسكرية تترصد أي بروز إسلامي، فتم حل حزب النظام الوطني الذي أسسه نجم الدين أربكان في العام 1970، بدعوى توجهه الإسلامي ومعارضته النظام العلماني ونيته إقامة دولة دينية. وجرى حل الأحزاب التي شكلها أربكان بعد ذلك، كحزب السلامة، وحزب الرفاه الإسلامي، ثم حزب الفضيلة الذي تمخض عنه حزب العدالة والتنمية وحزب السعادة.
العلمانيون في تركيا تبنوا أكثر أنواع العلمانية تشدداً، فهم يحاربون أي مظهر ديني، وأكبر شاهد على ذلك وقوفهم بقوة أمام السماح للمحجبات بدخول الجامعات. وقد حرّكت الأحزاب العلمانية عشرات الألوف من الناس في مظاهرات ضد حزب الرفاه ووصوله للسلطة، ورغم كل مظاهر التضييق والتغريب فقد ازداد عدد المحجبات والمتدينين، يشهد على ذلك حصول حزب التنمية على الأغلبية البرلمانية لأنه طرح شعارات إسلامية، ووعد بالمزيد من الحرية الدينية، وقد بدأ الكثير من الأتراك بالتخلي عن خط أتاتورك المتشدد، ودليل ذلك تقهقر مكانة حزب الشعب منذ أوائل الخمسينات، ولولا قانون تعظيم أتاتورك الذي سنّه مندريس، لارتخت قبضة العلمانية في تركيا منذ زمن بعيد.
كثير من الدول القائمة في العالم الإسلامي قلدت النموذج الأتاتوركي في فصل الدين عن الدولة وفرض العلمانية بالقوة، لكن معظمها لا تجاهر بعلمانيتها، إلا أن واقعها يقول بفصل الدين عن الدولة، وهذا مؤشر على أن العلمانيين لا يستطيعون تقديم العلمانية سافرة كأتاتورك، وهذا مؤشر على أن العلمانية غير منسجمة في الحقيقة مع المجتمعات الإسلامية، وهذه علامة ضعف واقتراب نهاية.
من علامات قرب نهاية العلمانية أنها في بلادنا تفتقر إلى مثال نموذجي للدولة العلمانية، فكل ما نشاهده هو نماذج تخلط بين الإسلام وغيره، فلا الفصل تام ولا الإسلام هو وحده في الساحة، والنماذج الغربية لا تغري بالتقليد في مجال التطبيق العلماني، فهي نماذج تقصي الآخر الإسلامي، وتقوم على القمع، ونموذج منع الحجاب في فرنسا وغيرها شاهد على ذلك.
العلمانية في عالمنا الإسلامي غير منسجمة مع الإسلام والمسلمين، بسبب رفض الإسلام لفكرة فصله عن الحياة، فالفصل صناعة أوروبية صرفة، ومن الدلائل الأخرى على أن العلمانية آيلة للسقوط، عودة كثير من رموز العلمانيين عن الفكر العلماني، مثل طه حسين وعلي عبد الرازق وخالد محمد خالد ومحمد حسين هيكل وغيرهم.
*كاتب أردني
المصدر: http://www.alghad.jo/?news=358258
منقول للإفادة
مع تحيات مبدع المنتدةى
mxex2008]
hmadaa@live.com _________________